الدعم العربي

نسخة كاملة : صناعة الألم
أنت حالياً تتصفح نسخة خفيفة من المنتدى . مشاهدة نسخة كاملة مع جميع الأشكال الجمالية .
من المعتاد أن نلاحظ لدى تجوالنا فى ردهات التاريخ، ميل الإمبراطوريات القديمة للتفكك ، فقد كان لحكام الأقاليم النائية أو المتمردين القدرة على التحصن والانفصال عن السلطة المركزية قبل أن تعرف هذه السلطات بانشقاقهم. بسبب عدم وجود وسائل سريعة للاتصال كتلك التى قدم بها العلم خدمة منقطعة النظير لحكامنا. فعندما أعلن " قسطنطين" نفسه إمبراطوراً فى "يورك" وزحف إلى روما ، كان قد وصل تقريباً إلى أسوار المدينة، قبل أن تعرف سلطاتها بمقدمه!

وكانت جل حروب الماضى تعتمد على بسالة الجيوش بغض النظر عن التجهيزات الحربية، لأن التفاوت فى مستوى التكنولوجيا التى يحوزها الطرفين كان غالباً يمكن إهماله ولكن عندما اتسعت هوة هذا التفاوت بين الطرفين المتحاربين فى الحرب العالمية الثانية، تمكن صاحب الإنتاجية الصناعية الأقوى من إلحاق هزيمة نكراء بالأعداء المشهود لهم بالبسالة .
ففى عام 1915 دعت البحرية الأمريكية " توماس إديسون" ليرأس مجلساً استشارياً علمياً لشئون البحرية مهمته دراسة ما يمكن تطبيقه من نتائج البحوث لخدمة الصناعات الحربية وكان هذا المجلس نواة لإنشاء معامل البحوث البحرية التى أنشأت فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى. وتزايد الاهتمام بتنظيم البحوث على مستوى الحكومة فى عهد الرئيس الأمريكى " فرانكلين روزفلت" الذى عمد إلى إنشاء مجلساً استشارياً علمياً لرئيس الجمهورية .
وفى عام 1939 تلقى "روزفلت" رسالة موقعة من الفيزيائى ذى الأصول الألمانية "أينشتاين" يحذر فيها من اعتكاف العلماء الألمان على محاولة استخلاص طاقة انفجارية من خلال تفاعل متسلسل باستخدام اليورانيوم مما سيؤدى إلى صناعة قنابل جديدة قد تكون غاية فى القوة . فما كان من "روزفلت" إلا أن أمر بتكوين لجنة استشارية لليورانيوم على الفور مهمتها الاتصال بالعلماء ثم رفع تقاريرها اليه.

وقد دفع التفوق الواضح للأسلحة الحربية الألمانية فى بداية الحرب الحكومة الأمريكية إلى تعبئة إمكانيات المجتمع العلمى لخدمى المجهود الحربى. وقد أبلغ العلماء فى 6 ديسمبر 1941 بقرار الرئيس الذى يقضى ببذل الجهود مضاعفة فى مشروع اليورانيوم .وفى اليوم التالى ألقت الطائرات اليابانية بقنابلها على ميناء" بيرل هاربور" مما دفع الولايات المتحدة إلى إعلان الحرب على اليابان ثم أعلنت كل من ألمانيا وإيطاليا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، الحرب على بعضهم البعض ،فكان هذا بمثابة دافع أكثر قوة لمضاعفة العمل فى مشروع اليورانيوم ، خشية أن يسبقهم الأمان إلى نتيجة ما حسبما حذر أينشتاين من قبل. فتم جمع العلماء للعمل معاً فى جامعة شيكاغو حتى تمكنوا فى الثانى من ديسمبر عام 1942 من إنتاج أول تفاعل متسلسل يقيم نفسه بنفسه.
بما يعد بانطلاق الطاقة النووية بصورة يمكن السيطرة عليها، ولكن هذا التفاعل كان من الوهن بحيث لا يمكن استخدامه لانتاج القنابل، وسرعان ما تولى جيش الولايات المتحدة بنفسه الإشراف على المشروع الذى سخرت من أجله كل الإمكانيات وعبأت للعمل فيه أكفأ العقول العلمية العاملة على الأراضى الأمريكية أمثال الأمريكى "روبرت أبنهايمر" والدانماركى" نيلزبور" والإيطاليان "انريكو فيرمى"و "إميليو سيجريه" وغيرهم. وفى لوس ألاموس عمل هؤلاء جنباً إلى جنب مع القيادات العسكرية فى إطار من السرية الشديدة حتى تمكنوا فى إحدى ليالى يوليو عام 1945 من إجراء أول تفجير ذرى انشطارى فى صحراء نيومكسيكو. وقد أعد الجنرال فاريل تقرير لوزارة الحربية الأمريكية ضمنه وصفاً لهذا التفجير جاء فيه :" وغمر جنبات الإقليم كله ضوء كشاف بلغ فى شدته أضعافاً مضاعفة لضوء الشمس فى رابعة النهار .............. وما أن انقضت ثلاثون ثانية بعد حدوث الانفجار حتى هبت ريح لافحة ضغطت بقوة على الإنسان والجماد ثم تبعها فوراً صوت راعد هادر متصل مخيف كأنه النذير الذى يؤذن بيوم الحشر. وقد نشأت سحابة على هيئة القبة واتخذت طريقها صاعدة فى الهواء كما أحدث الانفجار حفرة فى الصحراء كأنها فوهة بركان قطرها نصف ميل وصهرت الرمال التى كانت تغطى هذه الفوهة من الداخل بغشاء زجاجى أخضر اللون".
وفى أوائل أغسطس 1945 استسلمت اليابان بعد أن روعت بإلقاء قنبلتين انشطاريتين على أراضيها ، لتعلن بذلك الإنتاجية الصناعية المتفوقة عن غلبتها الكاسحة على البسالة والشجاعة القتاليتين، بفضل مساهمة الكوادر العلمية فى حسم هذا الصراع.
ولقد كان للحروب فى كل زمان ومكان ضحاياها من المصابين الذين كانوا كثيراً ما يلقون حتفهم بسبب تلوث جراحهم. وقد وصف " تولستوى " ضحايا التقيحات الناتجة عن تلوث الجروح لدى مصابى الحروب النابليونية، وصفاً يزخر بالحياة والألم ، الألم النابع من هؤلاء الجرحى ، والألم النابع من أنفسنا حين ندرك أن كل هذه الآلام كان يمكن تلافيها لو عرفت مطهرات الجروح والمضادات الحيوية.

لقد أدرك الجراح الإنجليزى " جوزيف ليستر" خطورة القذارة التى كانت تغلف المستشفيات بحيث تجعل المرضى لا ينجون من مضاعفات ما بعد العمليات الجراحية بسبب القذارة التى تلوث جراحهم وتسبب تقيحها، وقلما كان الجراح يصادف جرحاً بلا تقيح، لدرجة أن نسبة الموت بهذه المضاعفات كانت فى أحسن الأحوال لا تقل عن 30%

وقد دفعه إحساسه المرهف بالآم المرضى بالإضافة إلى اطلاعه على أعمال "باستير" إلى ابتكار طريقة لتطهير الجروح باستخدام حامض الكربوليك وهو الابتكار الذى ثبت نجاحه تجريباً ، غير أن استخدامه بتركيزات مرتفعة كى يكون فعالاً فى قتل الميكروبات يجعله يصل إلى أنسجة الجسم وإلى كريات الدم البيضاء فيتلفها مما يفقد الجسم مناعته ويصبح فريسة سهلة لأى ميكروب عابر يتلاقى مع جسم المريض.
وفى يونيو 1929 نشر" ألكسندر فلمنج" أول تقرير له عن البنسلين أتبعه فى عام 1932 ببحث مطول أوضح فيه قدرته على إعاقة نمو الميكروبات المكونة للصديد، وتفوقه على المطهرات العادية لكونه لا يؤثر على جسم المريض.

وقد تلقف "هوارد فلورى "و " وتشين" نتائج فلمنج وعكفا على محاولة عزل البنسلين فى صورة نقية بحيث يمكن استخدامه كعلاج فعال للأمراض ، كان ذلك مزامناً لبداية الحرب العالمية الثانية. ونظراً لضعف التمويل الذى حظيا به لإجراء بحوثهما، فقد هاجرا للولايات المتحدة عام 1941 حيث تلقتهم مؤسسة " روكفلر " بكل ترحاب وهيأت لهم كافة الإمكانيات التى تضمن لهم مواصلة بحوثهم، وبدءاً من عام 1943 تمكنا من إنتاج البنسلين كعامل علاجى بكميات وفيرة.

وكانت هذه الكميات تجد طريقها فوراً إلى مناطق القتال لتعمل على خفض نسبة الخسائر فى الأرواح وتحد من الآلام . وأصبح بالإمكان إعادة الجنود المصابين إلى ساحات القتال بعد أن تبرأ جراحهم بواسطة المعالجة بالبنسلين بدلاً من دفنهم متأثرين بتقيح جراحهم.
تسلم والله على الموضوع